كثيرا ما يقتصر المفكّرون على مستوى من مستويات الحرّية : فهذا يحصرها في الميدان السياسي ولا يراها إلاّ من المنظور المدني أو القانوني، وهذا يركّز على مجالاتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وهذا يشدّد على عناصرها الثقافيّة. ولئن كان من الأفضل الحديث عن شموليّة الحرية وتكامل أجزائها ورفض كلّ حصر وتقليص، فإنّ كلّ خطوة تخطوها المجموعة أو الفرد لصيانة الحريّة هي خطوة إيجابيّة في حدّ ذاتها. ومعلوم أنّ المسيرة لا تنتهي، وأنّ كلّ خطوة مهما كانت متواضعة هي مكسب للجميع، كما أنّ كلّ خطوة مهما كانت عملاقة هي مدعاة إلى خطوات أخرى. ومن المسائل المحيّرة في هذا الصدد : كيف يمكن للديمقراطية المبنيّة على التعدّدية السياسية والثقافية والاجتماعية أن تبعث ثقافة الحرية وتبثها وتتوسّع فيها دون أن تكون الاختيارات الأساسيّة منحازة إلى المصالح الفئوية؟ أين سبل الاعتدال وكيف يمكن السّير فيها؟ كيف نوجّه شبابنا ومثقّفينا وعمّالنا بغير تعسّف أو قهر؟ كيف الاهتداء إلى المعادلات الصعبة بين الضغوط الاجتماعيّة والإداريّة والضّوابط الأخلاقيّة والثقافيّة؟ هل يمكن للسلطة الإداريّة أن تكون عادلة؟ كيف نربّي على الحرية وكيف نبني ثقافة المشاركة السياسيّة وثقافة حقوق الإنسان وثقافة دولة القانون؟ كيف نمكّن الحقّ من أن يفرض نفسه على السّاحة التاريخيّة دون إنارة آتية من العقل ووازع مأتاه الحريّة؟ هذه التّساؤلات وغيرها، أثيرت في الدّورة الأولى لملتقيات قرطاج الدولية. ويعطي هذا الكتاب فكرة عن ثراء النقاشات والمداولات.