إنّ التخيّل كان دوما دأب الإنسان، ولم ينقطع عنه أبدا. ولولا الطوباويّات السياسيّة
لما تمكنت حكومات البشر من تحقيق أي تقدّم. وحتى لو عُدّ المثل الأعلى في حينه
خياليا بعيد المنال، فغالبا ما اتّضح أنّه أكثر حركيّة وحيويّة من فكر خاضع للواقع
اليومي خضوع العبيد.
ومن البديهي من جهة أخرى، أن ينطلق التفكير في الفنّ من منطلق الخيال.
فأكثر الرؤى السرّيالية مثلا أكسبت التعبير الفنّي بعدا ما كان للواقعيّة أبدا أن
تبلغه. وحتى فنّ التصوير وفنّ السينما، فقد توصّلا بفضل الخيال إلى سبل للتجاوز
غيّرت تغييرا جذريّا إدراكهما للواقع.
أمّا في مجال العلم، فإنّنا صرنا نعرف أنّ الشعور بالجمال وبالبساطة يسمح
للنظرية العلميّة بشقّ طريقها لإعادة النظر في الواقع وإعادة تنظيمه. ولقد انساق
كبار العلماء إلى نشوة التخيّل، فتصوّروا بداية الكون ومصدر الحياة، كما تصوّروا
العالم في غياب الإنسان ذاته.
ونستطيع أن نقول اليوم أكثر من أيّ عهد مضى من عهود التاريخ الإنساني أنّ
الواقع لا قيمة له بدون خيال، وأنّ الخيال لا يكون له أيّ تأثير دون واقع يرتكز
عليه.
وقصدَ التعمّق في هذه الإشكاليات، انتظم ملتقى دوليّ كبير ضمّ حوالي عشرين
مفكّرا من كبار المفكّرين متعدّدي الاختصاصات، ووقع تدارس المحاور الثلاثة
التالية في مداخلاتهم : الطوباويّة السياسيّة، الاستشراف العلمي، الخيال الخلاّق. وتمّ
نشر فعاليّات ذلك الملتقى في هذا الكتاب.
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات