إنّ الجهد المبذول في تونس اليوم لنشر المخطوطات لم يواكبه في الغالب سعي لوضع الوثائق التاريخيّة في متناول – لا ذوي الاختصاص فحسب – بل في متناول القرّاء المتطلّعين إلى ثقافة ذاتيّة متأصّلة. ولا شكّ أن نشرها من شأنه أن يفتح مجالا جديدا أمام التاريخ بمفهومه الثقافي المتّصل بجمع التراث ونشره بين الناس. وليس من الضروريّ أن يمرّ اقتناء المعلومة الخام عبر ما يحرّره المؤرّخون، بل الأفضل أن تعطى الكلمة أحيانا لشهود العيان والرواة والمناضلين حتّى يُبْدوا شهاداتهم حول وقائع عاشوها، فكتبوا ضربا من التاريخ من حيث لا يدرون. وفي هذا مواكبة لمتطلّبات التاريخ الطلائعي اليوم، لما نعاينه من شغف التحاور الصامت مع الوثيقة، على غرار ما يتمّ بالنسبة إلى المخطوط. لهذا الغرض أخرج الأستاذ توفيق البشروش من الأرشيف الوطنيّ التونسيّ جملة من الملفات ظلّت قابعة منذ سنوات دون أن تجد سبيلها إلى النشر، أوّلها يتعلّق بثورة علي بن غذاهم سنة 1864 . وقد مرّ قرن وربع على اندلاع هذه الثورة التي تطرح سلسلتين من القضايا : الأولى تتعلّق بإشكاليّة التحوّل من المجتمع التقليديّ إلى المجتمع الحديث، والثانية تتّصل بنوعيّة المجتمع التونسيّ عند الإعلان عن «عهد الأمان .» لا يشتمل هذا الجزء على وثائق الثورة بأكملها بل على ما يغطّي الفترة الأولى التي كان العربان منتصرين فيها، بين أفريل وجوان من سنة 1864 ، ومن ثمّ تسميتها ربيع العربان.